صلاح رشاد .. يكتب: الملك العضوض والأثمان الباهظة (55)
البرامكة .. ثقة زائدة وعدم حذر
كانت قصور البرامكة بجوار قصر الرشيد وكان يري الوفود والمواكب تذهب وتجيء من عند البرامكة، فبدأ يتغير عليهم تدريجيا لسببين، أولهما أن أيامهم طالت وكل طويل يبعث علي الملل شئنا أم أبينا، وثانيهما أن الدسائس لم تكن تنقطع ضدهم، وخاصة من الجناح المقرب من الرشيد سواء كانت زوجته زبيدة أو حاجبه الفضل بن الربيع وهو من هو في الدسائس والمؤامرات، ويبدو أنه ورثها عن والده الربيع بن يونس حاجب أبي جعفر المنصور الذي ظل يوغر صدر المنصور علي وزيره أبي أيوب المورياني حتي قتله، فكان الربيع وابنه الفضل من النوع المخيف الذي لديه قدرة مرعبة علي نسج المؤامرات والدسائس، وكان الأب وابنه يفضلان دائما أن يكونا رقم واحد عند الخليفة ومن ينازعهما في المكان والمكانة يصبح في مرمي غضبهما ومؤامراتهما.
ذكر ابن خلكان في كتابه وفيات الأعيان أن الفضل بن الربيع دخل يوما على يحيى بن خالد البرمكي وابنه جعفر يوقع بين يديه، ومع الفضل 10 مطالب فلم يقض له مطلبا واحدا منها، فجمعهن الفضل، وقال: ارجعن خائبات خاسئات.
ثم نهض وهو يقول:
عسى وعسى يثني الزمان عنانه
بتصريف حال والزمان عثور
فتقضى لبانات وتشفى حزائز
وتحدث من بعد الأمور أمور
فسمعه الوزير يحيى البرمكي فقال له: أقسمت عليك لما رجعت، فأخذ منه المطالب والحاجات فوقع عليها.
ثم لم يزل يحفر خلفهم حتى تمكن منهم وتولى الوزارة بعدهم، (فيا ويل من يحفر خلفه رجل في دهاء ومكر وخبث وأذي الفضل بن الربيع )
عموما عندما كان الرشيد راضيا عن البرامكة لم يكن مشغولا بهذه الوفود والمواكب التي تحط رحالها عندهم، لكن عندما بدأ السخط يسكن قلبه تجاههم تغيرت النظرة تماما مثلما قال الشاعر :
عين الرضا عن كل عيب كليلة
وعين السخط تبدي المساويا
أفرط البرامكة في الثقة وتجاهلوا الحذر، وكأن الدنيا قد دانت لهم والرشيد لن يتغير عليهم أبدا، فقد ظنوا أنه في قبضتهم وأنه أسير لهم، والذي شجعهم علي ذلك أن أيامهم دامت سنوات طوالا فقد استمروا قابضين علي زمام الأمور قرابة 17 سنة، وهي مدة زمنية طويلة جدا تجعل من يظن أن العلاقة لن تنفصل بين الرشيد وهذه الأسرة محقا، وتناسي البرامكة حكمة معاوية الشهيرة “إحذر السلطان فإنه يغضب غضب الصبي ويأخذ أخذ الأسد”.
تعامل الفضل بن يحيي علي أنه الملك المتوج في خراسان وما حولها فأسس جيشا لا يقل عن 100 ألف جندي يدين له بالطاعة والولاء وأسماه العباسية، وبعض الروايات بالغت في قوة الجيش وقالت إنه مكون من 500 ألف جندي وبالطبع هذا الرقم صعب جدا توفيره من منطقة واحدة في ذلك الزمان.
المهم أن تأسيس هذا الجيش لم يكن بأمر هارون الرشيد، ومن الطبيعي جدا أن ينزعج لأمر خطير كهذا، ولم يعد الرشيد ذلك الشاب الصغير الذي تولي الخلافة وهو في الثانية والعشرين من عمره بل كان علي مشارف الأربعين من عمره وعركته الأحداث والتجارب وأصبح لديه من الخبرة والحنكة مايجعله قادرا علي التعامل مع الأزمات الخطيرة التي يري أنها قد تهدد الدولة بعقلية الدهاة البارعين وليس بعقلية الشباب المندفعين المتهورين.
لذلك كان حريصا علي عدم إظهار أي شيء للبرامكة يجعلهم في حالة ترقب أو حذر، وقرر أن تكون الضربة مباغتة حتي لا يفلت منهم أحد وحتي تكون الخسائر قليلة جدا أو معدومة، خاصة أن تمكن البرامكة من كل مفاصل الدولة كان يتيح لهم أن يقلبوا الموازين إذا حدثت مواجهة صريحة وعلنية وظهر العداء مبكرا من جانب الرشيد لأنهم سيتعاملون في هذه اللحظات المفصلية علي أن الأمر أصبح مصيريا بالنسبة لهم ومعركة حياة أو موت.
وقيل إن الرشيد غضب على الفضل بن يحيى لتركه الشرب معه، وكان الفضل يقول: لو علمت أن شرب الماء ينقص مروءتي لتركته، وكان جعفر ينادم الرشيد، ويأمره أبوه بالإقلال من ذلك، فلا يسمع، وقال يحيى: يا أمير المؤمنين، أنا أكره مداخل جعفر معك، فلو اقتصرت به على الإمرة دون العشرة، يعني أن يك
ون مجرد أمير من أمرائك وليس صديقا لك ولصيقا بك قال: يا أبت ليس ذا بك، بل تريد أن تقدم الفضل عليه. (كان الفضل أحب أولاد يحيي إلي قلب أبيهم ).
كان يحيي بدهائه وحكمته وخبرات وتجارب السنين يتخوف من القرب الشديد لابنه جعفر من الرشيد، ويخشي من عواقب وخيمة بعد ذلك، لكن أقدار الله غالبة ولا أحد يفلت من مصيره وقدره.
لكن ما هي حكاية الرشيد مع الخمر وهل كان يشربها فعلا ؟
نجيب في الحلقة المقبلة إن شاء الله .